
استهداف القصر الجمهوري في دمشق بحد ذاته يُعد تصعيدًا غير مسبوق من جانب إسرائيل، ويحمل رسائل إقليمية ودولية، خصوصًا في ظل حرب غزة وتوتر جبهات المنطقة. لكن الجديد هو أن هذا الحدث أظهر تقاربًا غير متوقع في لغة الخطاب بين النظام السوري الحالي ومعارضيه، وعلى رأسهم أبو محمد الجولاني، وهو ما يثير تساؤلات أوسع حول طبيعة المرحلة المقبلة.
حيرة الشارع العربي وردود الأفعال الرسمية
الشارع العربي عبّر عن استغراب واضح: كيف لزعيم هيئة تحرير الشام أن يستخدم لغة قريبة من خطاب دمشق الرسمي، واصفًا قصف القصر الجمهوري بأنه “إعلان حرب” من إسرائيل؟ المفارقة لم تتوقف عند الجمهور، بل انعكست أيضًا في ردود أفعال الحكومات العربية.
السعودية والإمارات تعاملتا مع الحدث بحذر، وأكدتا ضرورة ضبط النفس وتفادي الانزلاق إلى مواجهة إقليمية شاملة.
قطر رأت في الخطاب المتقارب مؤشرًا على تحولات أعمق في بنية الصراع السوري، مع إمكانية إعادة صياغة العلاقات داخل المعارضة نفسها.
مصر ركزت على أن استهداف دمشق يمثل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمي، داعيةً إلى تحركات دبلوماسية عاجلة.
أما حكومة الاحتلال فقدّمت الحدث باعتباره “رسالة ردع” موجهة للنظام السوري ولإيران معًا، لكنها لم تتوقف كثيرًا عند “مفاجأة الخطاب” التي التقطها العرب.
بين الأسد والجولاني: خطابات تتقاطع
المفارقة الأعمق تكمن في أن لغة الجولاني اليوم تعيد إلى الأذهان مواقف النظام السوري نفسه في مراحل سابقة.
حافظ الأسد بعد حرب 1973 رفع شعار “الصمود والتصدي”، معتبرًا أن أي استهداف لدمشق هو استهداف لكرامة الأمة كلها.
بشار الأسد بعد حرب 2006 في لبنان تبنّى خطابًا مشابهًا، ركز على فكرة أن العدوان على حلفائه هو “إعلان مواجهة مفتوحة”.
الجولاني اليوم، رغم كونه خصمًا لدودًا للنظام، يتبنى لغة قريبة جدًا من تلك الشعارات، مما يوحي بأن “القاموس السياسي” السوري – نظامًا ومعارضة – قد يلتقي عند لحظة التهديد الإسرائيلي المباشر.
البعد الماورائي والميثولوجي
لكن بعيدًا عن السياسة المباشرة، لا يمكن تجاهل أن الجولان لطالما ارتبط في المخيال السياسي والديني – سواء في الشرق أو الغرب – بكونه “نقطة تحول” في مسارات كبرى. أدبيات كثيرة، بعضها ديني وبعضها استراتيجي، كانت تشير إلى أن أي هجوم على هذا الجيب الحساس قد يشعل “المعركة الفاصلة” أو يستدعي “غضبًا استثنائيًا” يعيد رسم خريطة المنطقة.
من هنا يمكن قراءة التصعيد الإسرائيلي ليس فقط كخطوة عسكرية، بل كجزء من محاولة أوسع لـ تثييس وجود الكيان وتقديمه كفاعل “قدَري”، يوظف الأسطورة والدين لتبرير سلوكه السياسي والعسكري.
السيناريوهات المحتملة: ما بعد الخطاب
المشهد السوري مفتوح على عدة احتمالات:
رد عسكري مباشر من دمشق عبر ضربات محدودة ضد مواقع إسرائيلية في الجولان المحتل.
فتح جبهات جديدة من خلال حلفاء إقليميين، مثل حزب الله أو فصائل في العراق واليمن.
الاكتفاء بالتحرك الدبلوماسي، عبر الأمم المتحدة والعواصم الكبرى، لتجنب انزلاق شامل.
توظيف الحدث داخليًا، حيث قد يجد النظام والمعارضة في “لغة مشتركة” مدخلًا لإعادة صياغة الخطاب الوطني أمام الرأي العام.
استهداف القصر الجمهوري كشف عن تصدعات ومفاجآت في المشهد السوري: لغة مشتركة بين خصوم الأمس، قلق عربي متباين، وقراءة إسرائيلية تسعى إلى تثبيت الردع مع توظيف البعد الميثولوجي. لكن السؤال الأهم يبقى: هل هذا الحدث مقدمة لتحولات سياسية عميقة في دمشق، أم مجرد لحظة عابرة سرعان ما ستذوب في دوامة الشرق الأوسط؟
في النهاية، قصف القصر الجمهوري لم يكن مجرد ضربة عسكرية عابرة، بل لحظة كشفت هشاشة الخطوط الفاصلة بين الداخل والخارج، بين النظام ومعارضيه، وحتى بين الواقع والأسطورة. فمنذ حرب 1973، كان خطاب حافظ الأسد يقوم على تصوير كل مواجهة مع إسرائيل كمعركة وجودية لا تحتمل التراجع. وبعد حرب لبنان 2006، تبنّى بشار الأسد لغة مشابهة حين قال إن “المقاومة هي قدر المنطقة”. اليوم، وبشكل مفاجئ، نجد زعيم المعارضة المسلحة الجولاني يتبنى نفس المفردات تقريبًا، في تماهٍ لم يكن ليتوقعه أحد، وكأن القاموس السياسي السوري لم يعد يميز بين قصر دمشق وجبال إدلب.
الأكثر غرابة أن هذه اللغة تأتي متزامنة مع تصعيد إسرائيلي غير مسبوق: استهداف رموز السيادة السورية، توسيع الجبهات، وتوجيه رسائل علنية للحلفاء الدوليين من روسيا إلى إيران. هنا يبدو أن إسرائيل لا تراهن فقط على كسر المعادلة العسكرية، بل على استدعاء معادلة أعمق: معركة كبرى تُغيّر وجه المنطقة. في الأدبيات السياسية والدينية – سواء في الغرب أو في خطاب الحركات العقائدية – كان الجولان دائمًا رمزًا لهذه اللحظة الفاصلة، النقطة التي إذا ضُربت اهتزّت معها خرائط كاملة.
الآن، ومع هذا التقارب اللغوي بين دمشق والجولاني، ومع الصمت الدولي الذي يترك إسرائيل تتحرك بلا قيود، يصبح السؤال أكبر بكثير من “متى وكيف سيرد السوريون؟”. نحن أمام مشهد تتداخل فيه السياسة بالأسطورة، وحسابات القوة بالميتافيزيقا. والسؤال الصادم الذي يفرض نفسه: هل نحن إزاء بداية إعادة رسم التحالفات والخرائط في الشرق الأوسط… أم أننا نسير دون أن ندري نحو لحظة النهاية التي طالما تحدّثت عنها النبوءات والسيناريوهات المظلمة؟